الكاتب والأديب محمّد علي طه
على كتفي اليمنى شرطيّ، وعلى كتفي اليسرى مُخبر، وأنا مراقب في كلماتي وحركاتي وأحلامي، فجوّالي يراقبني، وبطاقة هويّتي تشي بأفكاري، وهذا الجهاز الذي في سيّارتي مُخبر عصريّ، وبلادنا في حالة حرب، ويبدو انّ الحكم العسكريّ عاد، ولا يثق المرء بأخيه وبصديقه وبزوجه، وصرنا نتحدّث همسًا، وقد يعود أبناؤنا وأحفادنا تلاميذ المدارس ينشدون على أطلال قراهم: "في عيد استقلال بلادي، غرّد الطّير الشّادي، عمّت الفرحة البلدان، من السّهل للوادي، يلّا ويلّا وهيه!" وكأنّ يوم الأرض حدث في بلاد الواق واق، ويوم المساواة ذهب مع الرّيح، وصارت المرحومة الدّيمقراطيّة أضيق من سمّ الخياط.
يؤلمني أنّ أصدقاء الأمس من الشّعب الآخر وضعوا حزني في المختبر حينما رأوا غضب الإنسان الذي لا ينام في داخلي من صور قتل وأسر الأطفال والنّساء والشّيوخ في قرى كانت غلافًا لغزّة، وأتعبني البحث عن الضّمير الغائب فيما بعد.
"كرمال" خاطر الدّولة أقفلت فمي بشريط لاصق، احتفظت به من أيّام حرب الخليج، كي لا تقتحم فرقة من الشّرطة بيتي في ليلة ظلماء. قالوا لي: اخرس لا تتنفّس! فأطعتهم فاستكثروا عليّ صمتي!
وضعوا قائمة الممنوعات في دنياي وهم يدركون أنّ ما يُمنع في زمن الحرب من الصّعب إلغاؤه فيما بعد.
لا يُسمح لي أن أفرح بهطول الأمطار لأنّ هذا الفرح قد يُفسّر تفسيرًا خطيرًا، ولا يجوز لي أن أقارن بين الطّفل العربيّ وبين الطّفل اليهوديّ لأنّ حياة الطّفل اليهوديّ هي المهمّة فقط لا غير وأمّا حياة الطّفل العربيّ فهي فاشوش لعربوش.
ولا يصحّ أن أقارن بين حزن الأمّ اليهوديّة الثّاكل وبين حزن الأمّ العربيّة الثّاكل لأنّ هذه المقارنة جريمة وفيها تأييد للإرهاب فقد اكتشفت في هذه الأيّام أنّ الأمّ اليهوديّة لها قلب وعندها شعور واحساس وأمّا الأمّ العربيّة فهي منحوتة من حجر البازلت فلا تفرح ولا تحزن. مرحى مرحى لدبّابة المركفاه التي انتصرت على مستشفى، ومرحى مرحى للصّاروخ الذي هزم مسجدًا وكنيسةً وعمارة برلمان.
لا بدّ من أن أبرهن خمس مرّات في اليوم على اخلاصي لسيّدتي الدّولة التي تراني عدوًّا لدودًا لها.
يحقّ للوزير دختر أن يتحدّث عن نكبة غزّة وتدمير غزّة وترحيل سكّان غزّة وأمّا أنا المواطن العربيّ فممنوع أن أذكر ذلك بتاتًا لأنّ الجيش الاسرائيليّ جيش إنسانيّ جدًّا، وعليّ أن أتذكّر بأنّ العرب يحبّون الموت ويحبّون الرّحيل فالعربيّ بيته على ظهره منذ زمن البداوة، والرّحيل جزء من حياته وتاريخه، والأطلال رمز لحضارته.
لا يحقّ لي أن أصرخ من وجعي: "أوقفوا الحرب" لأنّ إيقاف الحرب يعني انقاذ النّساء والأطفال والأشجار والأزهار والأطيار والخدّج ومرضى السّرطان وهذا يعني أنّني إنسان.
منذ السّابع من أكتوبر طلبوا مني أن أكون إنسانًا بلا عينين وبلا أذنين وبلا لسان وباختصار بلا حواس، وأمروني: اخرس لا تتنفّس! ثمّ صرخوا في وجهي: لماذا أنت صامت؟
دعا عضو كنيست من الائتلاف الحاكم إلى قصف غزّة بقنبلة ذريّة ومسحها من على وجه الأرض مثلما فعلت أمريكا في هيروشيما. هذا البرلمانيّ رجل ديمقراطي ويجوز له ما لا يجوز لغيره. لا هيك الإنسانيّة لا بلاش.
لا بدّ يا ناس، يا عالم، من أن تنتهي الحرب ولا بدّ أن يعرف الآخر أنّني واحد من خمسة وبدوني لن تكون في البلاد ديمقراطيّة ولن يكون طبّ وصيدلة وحديقة وأشجار وأزهار وحمّص وفلافل.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com